المهرجان ومدينة الصويرة
وُلدت موسيقى كناوة من إرث أفريقي عريق، وظلت لفترة طويلة محصورة في ممارسات هامشية قبل أن تفرض نفسها كتراث موسيقي لا غنى عنه. ومنذ انطلاقه في 1998، لعب مهرجان كناوة وموسيقى العالم في الصويرة دورًا حاسمًا في هذا الاعتراف، حيث قدّم للمعلمين، وهم حملة الموسيقى الكناوية، منصة عالمية واسعة.
في كل عام، يجمع المهرجان في قلب مدينة الصويرة فنانين مشهورين ومواهب صاعدة في أجواء نابضة بالحياة ودافئة. ومن خلال مزجٍ غير مسبوق وتعاون موسيقي رفيع المستوى، تتلاقى الإيقاعات الكناوية الساحرة مع أنماط موسيقية متنوعة مثل الجاز، والبلوز، والروك، والريغي، والموسيقى التقليدية، لتولد لحظات موسيقية استثنائية. لقد شهدت منصة المهرجان مشاركة أساطير مثل بات ميثيني، ماركوس ميلر، جو زاوينول، وماسيو باركر، الذين ساهموا في منح هذه الموسيقى العريقة بعدًا عالميًا.
الانصهار: جوهر المهرجان
يُعد مهرجان كناوة وموسيقى العالم في الصويرة فضاءً حقيقيًا للحوار الثقافي عبر الموسيقى، حيث أصبح الانصهار الموسيقي علامته المميزة. في كل دورة، إذ تتحول منصاته إلى مسرح لتجارب فريدة، حيث يلتقي المعلمون بإيقاعاتهم التقليدية مع ارتجالات موسيقيين عالميين، ما يخلق مزيجًا صوتيًا مذهلًا. هذه الكيمياء الموسيقية تنتج حفلات ساحرة، حيث تمتزج حالة الارتقاء الكناوية، مع متعة الفانكي، وسفر الجاز، والنبضات الإفريقية.
مهرجان متعدد الأوجه
لا يقتصر مهرجان كناوة وموسيقى العالم على العروض الموسيقية فحسب، بل هو تجربة غامرة تتجلى عبر فضاءات متعددة:
- المسارح الكبرى: تُقام في الساحات الشهيرة لمدينة الصويرة، حيث تتفاعل الجماهير على وقع العروض الحماسية.
- الحفلات الحميمية: تُنظم في أماكن أكثر خصوصية، ما يتيح للجمهور فرصة نادرة للتواصل المباشر مع الفنانين والاستمتاع بتجربة استماع مميزة.
- منتدى حقوق الإنسان : فضاء للحوار والنقاش يجمع سنويًا مفكرين وفنانين لمناقشة قضايا ثقافية واجتماعية بارزة.
- شجرة الكلمات: المستوحاة من التقاليد الأفريقية، فهو ملتقى يجمع الفنانين والصحفيين وعشاق الموسيقى لتبادل الأفكار بحرية حول مواضيع مختلفة.
- الفعاليات الجانبية: تنبض أزقة الصويرة وأسواقها بالحياة عبر عروض الشارع، والحفلات العفوية، والورشات، والتفاعل المباشر مع الجمهور، مما يجعل المدينة بأكملها جزءًا من الحدث.
منتدى حقوق الإنسان: التزام يتجاوز الموسيقى
إلى جانب الاحتفاء بالموسيقى، يتميز المهرجان بتبنيه لقضايا الحوار والتفكير في التحديات المجتمعية الراهنة. وعلى مدار أكثر من اثني عشر عامًا، أصبح منتدى حقوق الإنسان مساحة حوار لا غنى عنها، حيث يجمع مفكرين وفنانين وفاعلين في المجتمع المدني لمناقشة قضايا جوهرية مثل حقوق الإنسان، والتنوع الثقافي، وحرية التعبير، والتحولات الاجتماعية.
يوفر المنتدى منصة مفتوحة لتبادل وجهات النظر والتجارب، بروح من الانفتاح والتعددية التي تميز المهرجان. في عالم سريع التغير، يلعب المنتدى دورًا حيويًا في إرساء فضاء حر للأفكار، حيث تتلاقى الأصوات من جميع أنحاء العالم لبناء مستقبل أكثر شمولية وتضامنًا. وعلى غرار موسيقى كناوة، التي تحمل إرثًا من المقاومة والتوارث، يواصل المنتدى مهمة المهرجان في الاحتفاء بالثقافات وطرح الأسئلة حول واقعنا المعاصر.
أصبحت الصويرة اليوم رمزًا حيًا للثقافة الكناوية. فـ”تكناويت” ليست مجرد تقليد موسيقي، بل هوية متجذرة في أزقة المدينة، تنبض في ساحاتها وتعيش في إيقاع المهرجان. فعلى مدى أكثر من 25 عامًا، كان مهرجان كناوة وموسيقى العالم قوة دافعة في تعزيز هذا التراث وإيصاله إلى الساحة العالمية، مما جعل الصويرة عاصمة الموسيقى الكناوية عالميًا.
لكن المهرجان يتجاوز كونه مجرد حدث موسيقي؛ فهو رمز للانفتاح، ومحرك للتنمية، وتراث حي يستمر في التألق خارج حدود المغرب. فمن خلال استقطابه للفنانين والمفكرين من جميع أنحاء العالم، جعل من الصويرة ملتقى ثقافيًا عالميًا، حيث تتقاطع التأثيرات الموسيقية والفكرية وتثري بعضها البعض.
ولم يقتصر تأثير المهرجان على المشهد الفني فحسب، بل ساهم في إحياء اقتصاد المدينة وسياحتها، مستقطبًا آلاف الزوار سنويًا، مما عزز النشاط المحلي ورسّخ مكانة الصويرة كوجهة ثقافية لا مثيل لها. وكنتيجة لهذا الزخم، انضمت المدينة في 2020 إلى شبكة المدن الإبداعية التابعة لليونسكو، اعترافًا بالتزامها بالثقافة وإشعاعها الدولي.
واليوم، لا تكتفي الصويرة بكونها مهد “تكناويت”، بل تجسد نموذجًا حيث تصبح الثقافة أداة للتحول الاجتماعي والاقتصادي، وجسرًا بين الموسيقى التقليدية والمعاصرة، وفضاءً للحرية والحوار.